في مقال سابق صدر
بجريدة " لوبينيون" تحت عنوان " جامعة القاضي عياض بين الواقع
والأوهام" تطرقت فيه إلى الوضعية الشاذة التي تعيشها جامعة القاضي عياض جراء
التدبير الشخصاني والانفرادي لرئيس لم يستطع أن يتخلص من نرجسيته في تدبير الشأن
العام، ولا زال يحن إلى نموذج عتيق في السلطة ينبني على التحكم في الأفراد وشراء
الذمم واستعمال أساليب لا تمت بصلة للأعراف والتقاليد الجامعية في مواجهة كل رأي يختلف مع توجهه.
لقد كان هدفنا في
المقال المذكور توجيه رسالة إلى السيد وزير التعليم العالي باعتباره مسؤولا عن
القطاع، ومن خلاله إلى السيد رئيس الحكومة لأحاطتهم علما، انطلاقا من إيماننا
بأنها الطريقة الحضارية التي تتماشى مع طبيعة دستور البلاد الذي يعتبر في فصله الأول:
أن النظام الدستوري للمملكة يقوم على أساس الديمقراطية المواطنة والتشاركية التي
تقتضي إشراك المواطنين في اتخاذ القرارات المتعلقة بتدبير شؤونهم وأخذا كذلك
بالاعتبار دور الأستاذ الجامعي الذي يجب أن لا يختزل في المدرج أو المختبر، بل
يفترض فيه أن يعتنق قضايا مجتمعه ويدافع عنها، وخصوصا إذا تعلق الأمر بتدبير شؤون
جامعته.
ولا يخفى اليوم على
أحد الدور الطلائعي الذي لعبته الجامعة في ترسيخ قيم الديمقراطية إن على الصعيد
الداخلي في تدبير شؤونها، أو في تكوين الأطر ونخب المفكرين الذين يرجع إليهم الفضل
في بناء المغرب الحديث، كما أن لا أحد يجادل في أن النقابة الوطنية للتعليم العالي
قد ناضلت منذ تأسيسها من أجل إرساء دولة الحق والقانون ودمقرطة الجامعة والمجتمع،
وقد حافظت على الدوام في نضالها على وحدتها وتماسكها، فكانت بحق النقابة الوحيدة
والمُوَحَّدة في المغرب الحديث، هذا بالرغم من تواجد تيارات ذات توجهات مختلفة
وأحيانا متباينة في مقاربة قضايا الجامعة والمجتمع، وهو أمر لم يتحقق إلا بفضل
المستوى العالي من التكوين الذي يتمتع به الأستاذ الجامعي والذي مكنه من تدبير
"الخلاف" عن طريق الحوار الفكري الرزينّ، فكان ذلك سببا أعطى للنقابة
الوطنية للتعليم العالي مكانة متميزة، وجعلها تحظى بالمصداقية والاحترام لدى جميع الوزراء والحكومات التي تعاقبت على
تدبير الشأن العام ببلادنا.
وإذا كان ذلك قد تحقق
للنقابة الوطنية للتعليم العالي وبفضلها، فذلك لأنها تعتبر أن الديمقراطية ليست
مجرد تقنية للحكم أو تدبير الشأن العام، بل هي أيضا وأساسا قيم هدفها العمل من أجل
بناء مجتمع متماسك ومتضامن يسعى كل أفراده إلى خدمة المصلحة العامة، ولإيمانها
كذلك أن اختزال الديمقراطية في مجرد أرقام وحسابات انتخابية (أقلية وأغلبية) يعتبر
جهلا بالمرتكزات الفكرية التي كانت وراء اختيار الديمقراطية كأسلوب لتدبير الشأن
العام، فالمبتغى من الاختبار الديمقراطي ظل هو تفجير الطاقات الكامنة في الإنسان
بجعله ينخرط بكل تفان في العمل من أجل تنمية ورقي بلده.
في هذا الإطار، تطرح
التطورات الأخيرة التي تعرفها جامعة القاضي عياض أكثر من سؤال حول مدى احترام
المقاربة التشاركية في تدبير شؤون الجامعة، وكذا دور الجامعة في ترسيخ دعائم دولة
الحق والقانون، وذلك من خلال الطريقة التي تنهجها الرئاسة في تدبير شؤون الجامعة،
والتي تكن العداء لكل ما هو نقابي سواء تعلق الأمر بالأساتذة أو الإداريين أو الطلبة،
مما يسائلنا حول الدور الذي يجب أن تلعبه الجامعة في بناء المغرب الحداثي
الديمقراطي: فكيف يمكن تفسير ظهور ما اصطلح عليه بـ " جبهة الدفاع عن
الجامعة" بإيعاز من رئيسها، مباشرة بعد دعوة الجمع العام النقابي لأساتذة
جامعة القاضي عياض ليوم فاتح أكتوبر 2013، وهو الجمع التاريخي الذي أجمع فيه
الأساتذة الباحثون على خوض أشكال نضالية احتجاجية، نظراً لاستحالة التعايش مع رئيس
الجامعة، كيف يمكن تفسير ذلك الظهور المفاجئ لتلك الجبهة المزعومة، والتي أخذت
تستعمل منذ الجمع العام المذكور أساليب غريبة عن الوسط الجامعي لمحاربة كل الآراء
التي تقف في وجه التدبير السلطوي المتجبر والغريب عن الأعراف الجامعية ؟!
إن اسم هذه الجبهة
وممارسات عضوها الوحيد والفريد الذي يشتغل بأسماء مستعارة، وهو ما يتنافى مع
الأعراف والتقاليد الجامعية التي تضمن مبدأ النزاهة الفكرية والحرية الأكاديمية،
يذكرنا بالجبهة السيئة الذكر التي ظهرت بداية الستينيات ضدا على مشروع الحركة
الوطنية المطالب آنذاك بدمقرطة المجتمع.
كما تذكرنا التصرفات
النرجسية والمتغطرسة في تدبير شؤون الجامعة، بما اصطلح عليه في مرحلة الاستعمار
الفرنسي للمغرب ب" تقونيس" نسبة إلى "القونسو" أي القنصل،
وتعني بعض المغاربة الذين كانوا يتمتعون آنذاك بحماية قنصلية أجنبية (الإنجليز
مثلا) تحميهم من الخضوع للقوانين المطبقة على المغاربة من طرف الاستعمار الفرنسي.
إزاء هذه التصرفات
الغريبة عن الوسط الجامعي، وفي الوقت الذي قطعت فيه بلادنا أشواطا متقدمة في بناء
دولة الحق والقانون بفضل التضحيات الجسيمة للقوى الحية في البلاد، والذي لعبت فيها
الجامعة دورا رياديا سواء من خلال بلورة تصورات ومشاريع مجتمعية، أو من خلال
الانخراط المبدئي والدائم للنقابة الوطنية للتعليم العالي وللاتحاد الوطني لطلبة
المغرب في نضالات القوى الحية من أجل بناء مجتمع ديمقراطي حداثي، نفاجأ اليوم في
جامعة القاضي عياض بظهور ممارسات غريبة لا تمت بصلة للأعراف والتقاليد الجامعية،
ولازالت تحن إلى نموذج سلطوي في تدبير الشأن العام يتنافى مع التحولات التي يشهدها
المغرب الحديث والجهود المتضافرة من أجل تعزيز بناء دولة الحق والقانون.
فكيف يمكن تعليل مصادقة الوزارة الوصية على قرارات مجالس جامعة تفتقد
للشرعية الديمقراطية التي تقتضي إشراك ممثلي الأساتذة الباحثين والإداريين في
تدبير شؤون الجامعة؟ كيف يسمح وزير التعليم العالي، وهو الأستاذ الجامعي الذي ناضل
إلى جانب زملائه في النقابة الوطنية للتعليم العالي من أجل دمقرطة الجامعة، لرئيس
جامعة بأن يدير الجامعة حسب مزاجه وضدا على إرادة ممثلي الأساتذة والإداريين بمجلس
الجامعة، وهل جامعتنا تعيش مرحلة نكوص وتردي لم يعد السيد الوزير قادرا على التحكم
في مسارها؟
إن ما يجري حاليا
بجامعة القاضي عياض ليشكل سابقة خطيرة في تاريخ الجامعة المغربية، ويمثل امتحانا
حقيقيا لكل الفرقاء في تنزيل المقاربة التشاركية التي ينادي بها الجميع، كما
يسائلنا حول مدى احترامنا واقتناعنا الحقيقي والصادق في تعزيز بناء دولة الحق
والقانون، وتعتبر الوزارة الوصية عن القطاع إلى جانب رئيس الحكومة الضامنين
لاحترام القوانين الجاري بها العمل في الجامعة، وعلى رأسها القانون 00-01.
أتمنى صادقا أن ما يقع
بجامعة القاضي عياض اليوم يمثل حالة منعزلة ، ولا يمت بصلة لمخطط محكم يراد منه
ضرب النقابة الوطنية للتعليم العالي والإجهاز على مكتسبات الجامعة العمومية من أجل
فتح الباب على مصراعيه للتعليم العالي الخصوصي، وأخشى ما أخشاه أن نصاب اليوم
بخيبة أمل اتجاه وزارتنا وأن يعم اليأس في
صفوف أساتذتنا وإداريينا حتى تذهب سدى كل التعبئة والمجهودات الجبارة التي بذلها
الأساتذة الباحثون والإداريون من أجل مواجهة كل الصعوبات التي تعترض الجامعة
العمومية، وتحول دون تمكينها من تكوين أبناء الطبقات الفقيرة تكوينا جيدا وفي
مستوى طموحات الشعب المغربي وقواه الحية.