الثلاثاء، 23 ديسمبر 2014

ABDOUHAKKI

الحرب على المجتمع المدني.. تجريم النقد :محمد الساسي

يعاني جزء من المجتمع المدني المغربي، حالياً، الأمرين ويعيش أياماً عصيبة وينال الضربات تلو الضربات. في مرحلة أولى، عِيبَ عليه وجود بعض النقص في البيانات المقدمة من طرفه بخصوص ما يتلقاه من تمويل أجنبي. وفي مرحلة ثانية، وُجِّهَت إليه، بدون سند، اتهامات خطيرة وصريحة تدور، في عمومها، حول فكرة الإضرار بالمصالح الوطنية العليا. وفي مرحلة ثالثة، جرى حرمانه من حق استغلال القاعات العمومية ومُنعت الأنشطة التي دأب على تنظيمها منذ سنوات وتعرضت الكثير من تحركاته للعرقلة والتضييق. وفي مرحلة رابعة، أفصحت السلطة عن نية إخضاع عمله لـ»نظام خاص» من النوع الذي لا يمكن أن يُقبل، عقلاً، في مجتمع ديمقراطي. وفي مرحلة خامسة، جرى التلويح بحل الجمعيات التي «تخل بالتزاماتها» كما يحددها، ربما، ذلك النظام الخاص.
تُقَدِّرُ السلطة، اليوم، أن من واجبها وقف «الفوضى» التي تطبع، في نظرها، عمل قطاع من المجتمع المدني، وتريد أن تفرض، على هذا القطاع، أن يعيد النظر في وظائفه ومواقفه وطريقته في الاشتغال، وأن يقبل بتحمل التزامات جديدة تضمن عدم حياده عن «التوجهات الرسمية للدولة».
إن ما تناهى إلى علم العموم وما رشح عن مجريات لقاء السيد محمد حصاد، وزير الداخلية، بعدد من الجمعيات، يفضح المستور، ويكشف عن استمرار السلطة في التشبث بنظرة ترفض الحق في الاختلاف وتتغذى من ثقافة التحكم. هناك مشكلة حقيقية تثيرها طريقة الوزير في تصور نوع العلاقة التي يجب أن تقوم بين السلطة وبين هيئات المجتمع المدني، وخاصة من خلال تأكيده على أنه «من غير المعقول أن توظف بعض الجمعيات قاعات رسمية للترويج لمواقف معادية للتوجهات الرسمية للدولة، وتعمل على خلق ادعاءات باطلة وتحريف حقيقة احترام الدولة للقانون وحقوق الإنسان» وعلى أنه «غير مستعد للتساهل في هذا الأمر». موقف وزير الداخلية، هذا، يدل على أن وقائع المنع التي عرفتها مناطق عديدة، في المغرب، لم تأت صدفة ولم تصنعها إرادات محلية، بل كانت ثمرة توجه مركزي بسبب الانزعاج من النبرة النقدية التي يحملها خطاب عدد من الجمعيات التي تتبنى «مواقف معادية للتوجهات الرسمية للدولة» والتي حَلَّ زمن معاقبتها عن ذلك، بعد أفول نجم النشاط الذي كانت تقوده حركة 20 فبراير في الشارع واطمئنان النظام، إلا أنه استرجع زمام المبادرة وأصبح في موقع قوة.
يُطلب، اليوم رسمياً، من هيئات المجتمع المدني، وخاصة الحقوقية منها، أن تقبل بإخضاع عملها إلى «نظام جديد» لا يستمد مقتضياته من القانون، بل من واقع جديد مفروض، وأن تتمرن على التعايش معه باعتباره نتيجة منطقية لانتهاء عهد «التساهل». يُقال، الآن، بالعربي الفصيح، إنه لم يعد مقبولاً أن تحيد الجمعيات عن «واجب» الانضباط لـ»التوجهات الرسمية للدولة» وإلا فإنها ستضع نفسها في مرمى نيران السلطة. ومن المؤسف، حقاً في المغرب، أن نكون مضطرين، بين الفينة والأخرى، إلى إعادة طرح المبادئ الأولية، المحسومة في جميع الديمقراطيات، للنقاش، فالقاعات العمومية، مثلاً، هي ملك للشعب بمخلف فئاته واتجاهاته السياسية ولا يمكن أن يُحرم أصحاب رأي معين من حق استعمال تلك القاعات. وإذا كان ممثلو السلطات العامة يعتبرون أن هذا الرأي يتضمن تحاملاً عليهم وتزييفاً للحقائق وتحريفا للواقع وتبخيسا لجهودهم وتشويها لصورتهم وتغليطاً للرأي العام، فيمكن لهم، دائماً، الرد بخطاب يفند المزاعم ويدحض الادعاءات ويجلي الحقيقة ويعيد الأمور إلى نصابها، خاصة في ظل وضع يحظى فيه خطابهم بامتيازات تسويقية كبرى؛ إذ لا وجه للمقارنة بين الإمكانات الضخمة المُتاحة لممثلي السلطات العامة والإمكانات المتواضعة والمحدودة المتاحة لممثلي الجمعيات.
إن «توجهات الدولة» تحددها وتغيرها صناديق الاقتراع ويعبر عنها المُنْتَخَبُون، وإذا كانت الديمقراطية تقتضي أن يكون جميع الوزراء، كمبدأ عام، منتمين إلى حزب أو أحزاب نالت ثقة الناخبين وتخضع لمحاسبتهم، فمن الطبيعي أن لا تكون، في الغالب، لوزير تولى المسؤولية، خلافاً لهذا المبدأ، أية مصلحة في تعميق مسلسل للدمقرطة الحقيقية، وهو عندما يناهض انبثاق مثل هذا المسلسل، فإنما يدافع عن نفسه، أولاً وقبل كل شيء، وهو عندما يتحدث عن المصالح العليا للدولة، قد يتناسى كون الديمقراطية تمثل إحدى أهم هذه المصالح.
لكن، طبعًا، إذا ما أصبحت القاعات العمومية مجالاً للدعوة إلى العنف أو الكراهية أو التمييز، فإن القضاء هو المخول وحده حق معاقبة من تصدر عنه مثل هذه الدعوة وليس الوزير.
إن السعي إلى فرض قيام تطابق قسري بين «التوجهات الرسمية» للحاكمين وتوجهات الأطراف الأخرى، هو، في النهاية، اغتيال للتعددية. وعمل السلطة لا يمكن أن يكون مقدساً أو غير قابل للنقد لمجرد أن من يباشرونه يتوفرون على اقتناع بأنهم يخدمون المصالح الوطنية العليا أو بأن الوطن يتعرض إلى تهديدات ومخاطر جدية.
إن حرص أكثر الأحزاب المغربية على إبداء أكبر قدر من التأييد المسبق والمباركة الجاهزة لمبادرات السلطة وما يفيض عنها من قرارات، دفع بالبعض إلى الاعتقاد بأن على كل الجمعيات، أيضاً، أن تصنع الشيء، نفسه، وأن تتحول، ربما، إلى أدوات تابعة للسلطة ومترجمة لإرادتها ومسايرة لمنطقها ومسوقة لمواقفها.
وفي المرحلة الخامسة من الحرب على المجتمع المدني، ذهب الأمين العام للحكومة إلى حد التهديد بحل الجمعيات «المخلة بالتزاماتها»، أو سحب صفة المنفعة العمومية عن تلك التي تتوفر، منها، على هذه الصفة، بدون أن يشير إلى أن حل أو توقيف الجمعيات لا يمكن أن يَتِمَّا، وفقاً لأحكام دستور 2011، إلا بمقتضى مقرر قضائي.
الحرب على المجتمع المدني، وخاصة على الجمعيات الحقوقية، تمثل، في نظرنا، ردًا على تنامي الأدوار التي لعبها ويلعبها قطاع مهم من هذا المجتمع، في مغرب اليوم، وتشكل جوابًا على واقع أصبح يطبعه، بقوة، حضور المعطيات التالية:
تحول المجتمع المدني، عملياً، إلى فاعل سياسي وإلى معارضة حقيقية، وذلك، أساساً، بسبب تراجع مصداقية العمل السياسي الحزبي وغياب معارضة مسؤولة ووازنة ذات أفق حداثي شامل، واضح ومنسجم. لم يقرر المجتمع المدني أن يكون بديلاً عن الأحزاب السياسية، طبعًا، ولكنه وجد نفسه منخرطًا في ملء جزء من فراغ سياسي قائم. 
 الدور الذي لعبه شباب المجتمع المدني في توفير شروط بزوغ حركة 20 فبراير وفي دعمها وإسنادها والتفاعل الإيجابي معها، ووجود تطابق بين تطلعات وهموم جزء من المجتمع المدني وتطلعات وهموم الحركة. وللتذكير، فإن أول لقاء للتواصل بين الرموز المؤسسة لـ 20 فبراير وبين رجال الصحافة، جرى في مقر الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالرباط. هناك من يعتبر أن العمل على إضعاف الجمعيات سيضعف حظوظ عودة حركة 20 فبراير.
عجز النظام عن تسفيه التقارير، الخاصة بالوضع الحقوقي في المغرب، التي تنجزها الجمعيات الوطنية وتقدمها إلى المحافل الدولية، وعدم قدرته على إقناع الدول والمنظمات، عبر العالم، بافتقاد تلك التقارير للمصداقية، وتزايد الصعوبات التي أصبح يواجهها المسؤولون الرسميون في الدفاع عن «حقيقة احترام الدولة للقانون وحقوق الإنسان».. إنها مشكلة هؤلاء المسؤولين، ويريدون من المنظمات الحقوقية أن تحلها بدلاً عنهم. 
شعور النظام بأن بعض مشاريع التعاون بين المنظمات الحقوقية المغربية وهيئات أجنبية يساهم، ربما، في تجريده من أسلحة إيديولوجية يحتاجها لتأمين نوع من الهيمنة والوصاية على المجتمع، ولضمان تفوق مشروعيته كحام للهوية الدينية وحارس للثوابت. هناك مواضيع قد تحرج الماسكين بزمام السلطة، أحياناً، ويفضلون ألا تُطرح للنقاش وألا تُعالج وفق منظومة التفكير الكونية مثل حرية التعبير والحقوق المدنية للنساء والحرية الدينية وحقوق الأقليات وعقوبة الإعدام وضمان ملاءمة التشريعات الداخلية والمقررات المدرسية للمواثيق الدولية والتربية على حقوق الإنسان.. إلخ. ولا شك أن حزباً محافظاً، مثل العدالة والتنمية، يشعر بالحرج ذاته ويعتبر أن الاشتغال على تلك المواضيع ليس من مصلحته إديولوجيا وانتخابيا، ولهذا فقد كان أحد وزرائه سَبَّاقًا، مثلاً، إلى فتح «معركة التمويل الأجنبي» ضد الجمعيات، بمعنى أن استهداف بعض تلك الجمعيات يمثل، موضوعياً، نقطة تقاطع بين مصالح طرفين : طرف تمثله الداخلية، وطرف يمثله حكوميو حزب العدالة والتنمية. 
الحزب، إذن، يجني بعض الفوائد من الحرب الحالية على المجتمع المدني الحداثي، ورغم ذلك فلا نستطيع القول إنه يبارك كل ما تنطوي عليه من قرارات للمنع والتضييق، ولكن رئاسته للحكومة تجعله يتحمل، سياسيًا، مسؤولية جميع تلك القرارات.